الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: العقد الفريد **
- يقال في العدوّ: هو أَزْرَق العين وإن لم يكن أَزْرَق وهو أَسْود الكَبِد وأَصْهب السِّبال. البخيل يعتل بالعسر - منه قولهم: قَبْل البُكاء كان وجهُك عابساً. ومنه: قبل النِّفاس كنت مُصْفَرَّة. اغتنام ما يعطى البخيل وإن قل - منه: خذ من الرِّضْفة ما عليها. وخُذ من جَذَع ما أعطاك. قال ابن الكلبي: وأصل هذا المثل أن غسّان كانت تُؤدِّي إلى ملوك سَلِيح دينارين كلَّ سنة عن كل رجل وكان الذي بَلى ذلك سَبَطة بن المُنذر السَّليحي فجاء سَبَطة إلى جَذَع بن عمرو الغسّاني يَسأله الدِّينارين فَدَخَل جَذَع منزلَه واشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به سَبَطة حتى سَكت ثم قال له خُذ من جَذع ما أعطاك فامتنعت غسّان من الدينارين بعد ذلك وصار الملْك لها حتى أتى الإسلام. البخيل يمنع غيره ويجود على نفسه - منه قولهم: سَمْنُكم " هُرِيق " في أديمكم. ومنه يا مُهْدِيَ المال كُلْ ما أهديت. ومنه قول العامة: الحمار جَلَبه والحمار أكله. موت البخيل وماله وافر - منه مات فلان عريضَ البِطان. ومات بِبِطنته لم يَتَغَضْغَض منها شيء. والتَّغضغض: النقصان. البخيل يعطي مرة - منه قولهم: ما كانت عطيَّته إلا بَيْضة العُقْر وهي بَيْضة الديك. قال الزُّبيرِي: الدِّيك ربَّما باضٍ بيضة وأنشد لبشّار: قد زًرْتِني زَوْرَةَ في الدَّهر واحدة ثَنِّي ولا تَجْعليها بيضةَ الدِّيكِ ومنه قولُ الشاعر: لا تَعجبنّ لخير زلّ من يَدِه فالكوكبُ النَّحس يَسْقِي الأرضَ أحياناً ومنه قولُهم: من الخَواطئ سهمٌ صائب. والليلُ طويل وأنت مُقمِر. وأصل هذا " أن " سُليك بن سُلكَة كان نائماً مُشْتملاً فجَثَم رجل على صدره وقال له: استأسرْ فقال له: الليل طويل وأنت مُقْمِر " ثمّ قال له: استأسر " يا خَبيث فضَمَّه ضَمَّة ضَرِط منها فقال له: أَضَرِطاً وأنت الأعلى فذهبت أيضاً. طلب الحاجة المتعذرة - منه قولُهم: تَسألني بَرامَتين سَلْجماً. وأصله أنّ امرأة تَشهَّت على زوجها سَلْجماً وهو ببلد قَفْر فقال هذه المقالة. والسَّلجم: اللِّفت. ومنه شرُّ ما رام امرؤ ما لم يَنَلْ. ومنه: السائلُ فوق حقِّه مُسْتَحِق الحِرْمان. ومنه قولُهمّ: إنك إنْ كلفتني ما لم أُطِق ساءَك ما سَرَّك منِّي من خُلُق الرضا بالبعض دون الكل - منه: قد يَرْكبُ الصَّعب من لا ذَلول له. وقولُهم: خُذ من جَذَع ما أعطاك. وقولهم: خُذ ما طَفَّ لك أي ارض بما أمكنك. ومنه قولُهم: زَوْجٌ من عُود خيرٌ من قُعود. وقولُهم: ليس الرِّيّ " عن " التّشاف أي ليس يَرْوَى الشاربُ بشرب الشِّفافة كلّها وهي بقية الماء في الإناء. ولكنه يَرْوى قبل بلوغ ذلك. وقولهم: لم يُحْرَمٍ من فُصِد له. ومعناه: أنهم كانوا إذا لم يَقْدروا على قِرَى الضَّيف فَصَدوا له بعيراً وعالجوا دَمه بشيء حتى يمكن أن يأكله. ومنه قول العامة: إذا لم يكن شَحْم فَنَفس. أصل هذا أن امرأة لَبِسَت ثياباً ثم مَشت وأظهرت البُهْر في مِشْيتها بارتفاع نَفَسها فلَقِيها رجلٍ فقال لها: إني أَعرفك مَهزولة فمَن أين هذا النفس قالت: إن لم يكن شَحْم فنفس. وقال ابن هانئ: التنوق في الحاجة - منه قولهم: فعلتَ فيها فعلَ من طَبَّ لمَن أحَبَّ. ومنه قولهم: جاء تَضِبُّ لِثَاته على الحاجة معناه لشدة حِرْصه عليها. وقال بِشْر بن أبي خازم: خيلا تَضِبّ لِثَاتُها للمَغْنم استتمامِ الحاجة - أَتْبع الفرس لجامها يريد أنك قد جُدْت بالفَرس واللِّجام أَيْسر خَطْباً فأتمَّ الحاجة. ومنه: تَمام الرَّبيع الصَّيف وأصله في المطر فالرَّبيع أوّله والصَّيف آخره. المصانعة في الحاجة - مَن يَطْلب الحَسْناء يُعْطِ مَهْرَها. وقولهم: المُصانعة تُيَسِّر الحاجة. ومَن اشترى فقد اشتوَى. يقول: مَن اشترى لحماً فقد أَكل شِواء. تعجيل الحاجة - قولهم: السَّرَاح من النجاح. النفسُ مُولعةٌ بحبِّ العاجل. الحاجة تمكن من وجهين - منه قولهم: كلا جانبي هَرْشى لهُنّ طريق. هَرْشى: عقبة. ومنه: هو على حَبْل ذِراعك أي لا يخالفك. مَن منع حاجة فطلب أخرى - منه قولهم: إلاده فلاَدهِ. قال ابن الكلبي: معناه أن كاهناً تَقَاضى إليه رجلان من العرب: فقالا: أَخْبرنا في أي شيء جِئناك قال: في كذا وكذا قالا: إلادَه أي انظر غير هذا النظرِ. قال: إلادَه فَلاَده " ثم أخبرهما بها ". قال الأصمعي: معناه إن لم يكن هذا الآن فلا يكون بعد الآن. الأمرُ يَحْدُث دونه الأمر. وقولهم: أخْلَف رُوَيْعياً مَظِنُّه. وأصله أن راعياً اعتاد مكاناَ فجاءه يرعاه فوجده قد تغيِّر وحال عن عهده. ومنه قولهم سَدَّ ابن بَيْض الطريقَ سدًّا. وابن بيض: رجل عقر ناقة في رأس ثَنيَّة فسدَ بها الطريق. اليأس والخيبة - منه قولهم: جاء بخُفي حُنين. وقد فسرناه في الكتاب الذي قبل هذا. ومنه: أطالَ الغيبة وجاء بالخَيْبة. ونظير هذا قولهم: سَكت ألفاً ونَطَق خَلْفاً أي أطال السكوت وتكلم بالقبيح وهذا المثل يقع في باب العيّ وله ها هنا وجه أيضاً. وقال الشاعر: ومازِلْتُ اقطعُ عَرْضَ البِلادِ مِن المَشْرِقين إلى المَغْرِبَين وَأدَّرعُ الخوفَ تحتَ الدُجى وَأسْتَصْحِبُ الْجَدْى وَالفَرْقَدَيْن وَأطوِى وَأنْشُرُ ثوبَ الهُموم إلى أن رَجَعتُ بخُفي حُنَيْنِ طلب الحاجة في غير موضعها - قالوا: لم أجد لشفْرَتي مَحَزّا. وقولهم: كَدَمْتَ غير مَكدَم. وقولهم: نَفختَ لو تنفخ في فَحَم. وقالت العامة: يَضرب في حديدٍ بارد. طلب الحاجة بعد فواتها - منه قولهم: لا تطلب أثراً بعد عَين. وقولهم: " في " الصيَّف ضَيّعتِ اللبن. معناه أنّ الرجل إذا لم يُطرق ماشيَته في الصيَّف كان مُضَيِّعاً " لألبانها عند الحاجة ". الرضا من الحاجة بتركها - منه قولهم: نجا برأسه فقد رَبح. وقولهم: وقول العامة: الهزيمة مع السلامة غنِيمة. وقال امرؤ القيس: وقد طوَفْتُ في الآفاقِ حتَّى رَضِيتُ من الغنيمة بالإيابِ وقال آخر: الليلُ داج والكِباشُ تَنْتَطِحْ فَمن نَجَا برأسه فقد رَبِحْ من طلب الزيِادة فانتقص - منه: كطالب القَرْن جُدِعت أُذُنه. وقولهم: كطالب الصَّيد في عريسة الأسد. وقولهم: سَقَط العَشاء بها على سِرْحان. يريد دابة خَرجت تطلب العَشاء فصادفت ذِئباً. ونظير هذا من قولنا: طلبْتُ بك التكثير فازددتُ قِلَّةً وقد يَخْسر الإنسان في طلب الرِّبْح الرجل يخلو بحاجته - منه قولهم: خلا لكِ الجوُّ فبِيضى واصْفِرى ومنه: " رًمِي " برَسنك على غاربك. وهذا المثلُ قالته عائشة لابن أخت مَيْمونة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم: ذهبت والله ميمونة ورُمي برَسَنك على غاربك. ارسالك في الحاجة من تثق به - أرْسِل حكيماً ولا توصِه. وقولهم: الحريص يَصِيد لك لا الجواد. يقول: إنّ الذي له هوىً وحِرْص على حاجتك هو الذي يقُوم بها لا القويّ عليها ولا هَوَى له فيها. ومنه قولهم: لا يُرَحِّلنّ رحلَك مَن ليس معك. ومنه في " هذا " المعنى: الحاجة يجعلها نُصْبَ عينيه ويَحْملها بين أذنه وعاتقه ولم يجعلها بظَهْر. قضاء الحاجة قبل السؤال - لا تسأل الصارخ وانظر ماله. يريد لم يأتك مُستصرخاً إلا منِ ذُعر. أصابه فأغِثه قبل أن يسألك. ومنه كَفي برُغائها منادياً. ومنه: يُخْبِر عن مجهوله " مَعْلومُه ". وقولهم: في عَيْنه فَرَارُه. يَعْنون في نظرك إلى الفَرس ما يُغْنيك عن فَراره. الانصراف بحاجة تامة مقضية - جاء فلان ثانياً من عِنانه. فإن جاء بغير قضاء حاجته قالوا: جاء يضرْب أصْدَرَيْه أي عِطْفيه. وجاء وقد لَفَظ لِجَامه. وجاء سَبَهْلَلاً. فإن جاء بعد شدّة قيل: جاء بعد الُّلتيا والَتي. وجاء بعد الهِيَاط والمِيَاط. تجديد الحزن بعد أن يبلى - منه قولهم: حَرك لها حُوارها تَحِنَّ. وهذا المثل يُروى عن عمرو بن العاص أنه قال لمِعاوية حين أراد أن يَسْتَنصر أهلَ الشام: أخْرِج إليهم قميصَ عثمان رضوان الله عليه الذي قُتل فيه. ففعل ذلك مُعاوية فأقبلوا يَبْكون فعندها قال عمرو: حَرِّك لها حُوَارَها تَحِنّ. جامع أمثال الظلم - منه قولُهم: الظُّلم مَرْتعه وَخيم. وفي الحديث: الظلم ظُلمات يوم القيامة. الظلم من نوعين - منه: أحَشَفاً وسوءَ كِيلة. ومنه: أغُدَّةٌ كغُدَّة البَعير وَموْتٌ في بيت سَلُوليّة. وهذا المثل لعامر بن الطُّفيل حين أصابه الطاعوِن في انصرافه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلجأ إلى امرأة من سَلُول فهلك عندها. ومنه: أَغَيْرَةَ وَجُبْناً. قالته امرأةٌ من العرب لزوجها تُعيِّره حين تخلَف عن عدوّه في منزله ورآها تَنظُر إلى قِتال الناس فَضرَبها. فقالت: أغيرة وجُبْناً. وقولهم: أكسْفاً وإمساكاً. أصله الِرجل يلقاك بعُبوس وكُلوح مع بُخل ومَنْع. وقولهم: ياعَبْرَى مُقْبلة يا سَهْرَى مُدْبِرَةَ. يُضرب للأمر الذي يًكره من وجهين. ومنه قول العامة: كالمُستغيث من الرَّمْضاء بالنار وقولهم: للموت نَزَع والموت بَدَر. وقولهم: كالأشقَر إِنْ تقدَّم نحِر وإن تأخّر عُقِر. وقولهم: كالأرقم إن يُقْتَلْ يَنْقِم وإن يُترْك يَلْقم. يقول: إن قتلته كان له من ينتقِم منك وإن تركته قتَلك. ومنه: هو بين حاذفٍ وقاذفٍ. الحاذف: الضارب بالعصا. والقاذف: الرامي بالحَجَر. من يزداد غماً على غم - منه قولهم: ضِغْثٌ على إبّالة. الضِّغث: الحُزمة الصغيرة من الحطب. والإبّالة: الكبيرة. " ومنه قولهم: كِفْتٌ إلى وَئيّة. الكِفْت: القِدْر الصغيرة. والوئية: القِدر الكبيرة. يُضرب للرجل يحمل البليّة الكبيرة ثم يزيد إليها أخرى صغيرة " ومنه قولهم: وَقَعوا في أم جُنْدب. إذا ظُلِمُوا. المغبون في تجارته - منه قولهم: صَفْقة لم يَشْهدها حاطب. وأصله أنّ بعض أهل حاطب باع بَيْعَة غُبن فيها. ومنه قولهم: أعطاه الَّلفَاءَ غير الوفاء. سرعة الملامة - منه: ليس من العَدْل سرعة العَذْل. ومنه رُبَّ مَلُوم لا ذنبَ له. وقولهم: الشَعيرُ يُؤكل ويُذمّ. وقولُ العامة: أكلاً وذمًّا. وقولُ الحجاج: قُبِّح والله منا الحسن الكريم يهتضمه اللئيم - لو ذاتُ سِوَار لَطَمَتْني. ومنه: ذًلّ لو أَجِد ناصراً. الانتصار من الظالم - هذه بتلك والبادي أَظْلم. ومنه: مَنْ لم يَذُد عن حوضه يهدَّم. الظلم ترجع عاقبته على صاحبه - قالوا: مَن حفر مُغوّاة وَقع فيها. والمغوّاة: البئر تُحْفَر للذِّئاب ويُجعل فيها جَدْيٌ فيسقط الذئبُ فيها لِيَصِيدَه فَيُصاد. ومنه: يَعْدو على كل آمرىء ما يَأْتمر. ومنه: عاد الرَّمْي على النَزَعَة. وهم الرّماة يَرْجع عليهم رَمْيهُم. وتقول العامة: كالباحِث عن مُدْية. ومنه قولهم: رُمي بحَجَره وقُتِلَ بسلاحه. المضطر إلى القتال - مُكْرَه أخوك لا بطل. قد يَحْمِلُ العير من ذعر على الأسد المأخوذ بذنب غيره - جانِيكَ مَن يَجْني عليك. ومنه: ": كَذِي العُرّ يُكْوي غَيرُه وهو راتِع ومنه: كالثوْر يُضْرب لما عَافَت البَقَر يعني عافت الماء. وقال أنَس بن مُدْرك: يعني ثَور الماء وهو الطحلُبُ يقال: ثار الطّحلب ثَوْراً وثَوَرانا. ومنه قولهم: كلُّ شاةٍ بِرِجْلها تُناط. يُريد: لا يُؤْخذ رجلٌ بغير ذَنْبه. المتبرىء من الشيء - ما هو من ليلي ولا سَمَرِه. ما هو من بَزِّي ولا مِن عِطْري. مالي فيه ناقة ولا جَمَل. ومنه قولهمَ: بَرِئْت منه إلى اللّه. ومنة: لستُ منكَ ولستَ منّي. وما أنا من دَدٍ ولا دَدٌ مني. سوء معاشرة الناس - قالوا: الناس شَجرة بَغْى. لا سَبِيل إلى السّلامة من أَلْسنة العامة. وقولهم: رِضىَ الناس غايةٌ لا تدرك. ومنه الحديثُ المرفوع: النّاس كإِبلٍ مائةٍ لا تكاد تَجد فيها راحِلة " واحدة ". ومنه قولهم: الناس يُعيِّرون ولا يَغْفرون واللّه يغَفر ولا يُعيِّر. وقال مالكُ بن دينار: مَن عرف نفسَه لمِ يَضِرْه قولُ الناس فيه. وقول أبي الدَّرداء: إنْ قارضْتَ الناسَ قارضُوك إنْ تركتهم لم يَزكوك. الجبان وما يذم من أخلاقه - منه قولهم: إنّ الجبانَ حَتْفه من فَوْقه. وهو من قول عمرو بن أمامة: لقد وَجدتُ الموتَ قبلَ ذَوْقه إنّ الجَبان حَتْفه من فَوْقه قال أبو عُبيد: أحسبه أراد " أن " حَذَره وتَوقَيه ليس بدافع عنه المَنيّة. " قال أبو عمرِ ": وهذا غَلط من أبي عُبيد عندي والمَعنى فيه أنه وَصف نفسَه بالجُبن وأنه وَجد الموت قبل أن يَذُوقه وهذا من الْجُبن ثم قال: إنّ الجبان حتفُه من فوقه يريد أنه نظر إلى منيّته كأنما تحوم على رأسه كما قال الله تبارك وتعالى في المنافقين " إذ وصفهم بالجبن ": " وكما قال جرير للأخطل يُعيّره " إيقاعِ قَيْس بهم ": حَملتْ عليك رجالُ قَيْسٍ خَيْلَهَا شعْثاً عوابسَ تَحْمِلُ الأبطالا مازِلْتَ تَحْسِب كل شيء بعدَهم خيلاً تكر عليكمُ ورجالا ولو كان الأمر كما ذهب إليه أبو عُبيد ما كان معناه يَدخل في هذا الباب لأنه باب الجبان وما يُذَم من أخلاقه وليس أخذ الحَذَر من الجبن في شيء لأن أخْذ الحَذَر محمود وقد أمر الله تعالى به فقال: " ومنه الشعر تمثل به سعد بن مُعاذ يوم الخنْدق: لَبِّث قليلا يُدْرِك الهيْجا حَمَل ما أحسنَ الموتَ إذا حان الأجَلْ ومنه قولُهم: كلّ أزَبّ نَفور وإنما يقال في الأزبّ من الإبل لكثرة شره ويكون ذلك في عَيْنيه فكلّما رآه ظن أنه شَخْص " يطلبه " فَيَنْفِر من أجله. ومنه قولُهم: بَصْبَصْنَ إذ حُدِين بالأذْناب. ومنه قولُهم: وقولُهم: حال الجَريض دونَ القَرِيض. وهذا المثل لعَبِيد بن الأبرص قاله للنعمان بن المنذر بن ماء السماء حين أراد قتْلَه فقال له: أنْشِدني شِعْرَك: أقفر من أهْله مَلْحُوب فقال عَبِيد: حال الْجَرِيضُ دون القَرِيض. ومنه: قَفّ شَعَره واقشعرت ذُؤابتُه. " معناه: قام شعره " من الفَزَع. إفلات الجبان بعد اشفائه - منه قولُهم: أفلت وانْحص الذَّنَب ومنه: أفْلَت وله حُصَاص. وُيروى في الحديث: إن الشّيطان إذا سَمع الأذَان أدْبر وله حُصَاص. ومنه: أفلتنى جُرَيعَة الذَّقن إذا كان منه قرِيباً كقُرب الجَرْعة من الذَقن ثم أفلته. ومنه قول العامة: إن يُفلت العَيْرُ فقد ذرَق. وقولُهم: أفلتني وقد بَلَ النيْفق الذي تُسَمِّيه العامة النِّيفَق الجبان يتهدد غيره - منه قولُهم: جاء فلان يَنفَض مِذرَوَيه أي يتوعّد ويتهدّد. والمِذْرَوَان: فَرْعا الأليَتين. ولا يكاد يُقال هذا إلا لمن يتهدّد بلا حقيقة. ومنه: أبْرق لمن لا يَعْرفك. واقْصِد بذَرْعك. ولا تبْق إلا على نفسك. تصرف الدهر - منه: مَن يَجْتمع تَتقَعْقَع عُمُدُه: أي إن الاجتماع داعية الافتراق. ومنه: كل ذات بَعْل ستَئِيم. ومنه البيت السائر: ومنه: لم يَفُتْ مَن لم يَمُت. الاستدلال بالنظر على الضمير - منه قولُهم: شاهد البُغْض اللَّحْظ. وجَلًى محبٌّ نَظَرَه. قال زُهَير: فإنْ تَكُ في صَديقٍ أو عدوّ تخبِّرْك العيونُ عن القًلوب وقال ابن أبي حازم: خذ من العَيش ما كَفي ومِنَ الدهرِ ما صَفَا عَين من لا يُحبّ وَصَ لَك تُبْدِي لك الجَفا نفي المال عن الرجل - منه قولهم: ما له سَعْنَة ولا مَعْنة. معناه: لا شيء له. ومنه: ما له هِلِّع ولا هِلَّعة وهما الجَدْي والعَنَاق. ومنه: ما له هارب ولا قارب. معناه: ليس أحد يَهرُب منه ولا أحدٌ يقرب إليه فليس له شيء. وقولهم: ما له عافِطة ولا نافِطة وهما الضَّائنة والمَاعِزة. وما به نَبَض ولا حَبَض. قال الأصمعيّ: النَبَض: التحرّك ولا أعرف الحَبَض. وقال غيرُه: النبَض والحَبَض في الوتر فالنَّبَض: تحرُّك الوَتر والحَبَض: صوته. وقال: والنيْلُ يَهْوِي نَبَضاً وحَبَضاً ومنه قولهم: ما له سَبَد ولا لَبَد هما الشعر والصوف. ولم يَعْرف الأصمعي السَّعْنة والمَعْنة. إذا لم يكن في الدار أحد - منه قولهم: ما بالدار شَفْر ولا بها دُعْوِيٌّ ولا بها دًبّي. معناه: ما بها من يدعو من يَدِب. وما بها من عَريب ولا بها دُورِيّ ولا طُوِريّ وما بها وابِر وما بها صافِر وما بها ديار وما بها نافخ ضَرَمة وما بها أرم. معنى هذا كله: ما بها أَحد. ولا يقال منها شيء في الإثبات والإيجاب وإنما يَقولونها في النَّفي والجَحْد. اللقاء وأوقاته - منه: لَقِيت فلاناً أولَ عَين يعني أولَ شيء. وقال أبو زيد: لقيتُه أولَ عائنة ولقيتُه أوّلَ وَهْلة ولقيته أولَ ذات يَدَيْنِ ولقيته أولَ صَوْك وأولَ بَوْك. فإن لقيته فجأة من غير أن تُريده قلتَ: لَقِيته نِقَاباَ ولَقِيتُه التقاطاً إذا لَقِيتَه من غير طَلَب. وقال الراجز: ومَنْهل وردته التقاطاً وإن لقيته مُواجهة قلت: لَقيتُه صِفاحاً ولقيتُه كِفاحاً ولقيتُه كَفَةَ كَفةَ. قال أبو زَيد: فإنْ عَرض لك من غير أن تذكُرَهُ قلت: رُفعِ لي رفعاً وأشِبّ لي إشباباً. فإن لقيتَه وليس بينك وبينه أحدٌ قلتَ: لقيتُه صَحْرة بَحْرَة وهي غيرُ مُجْراة. فإن لقيتَه في مكان قَفْر لا أنيسَ به قلتَ: لقيته بوحش إصْمتَ غير مُجْرى أيضاً ولقيته بين سَمع الأرْض وبصرَها. فإنْ لقيتَه قبل الفجر قلتَ: لقيتُه قبل " كل " صيْحٍ وَنَفْر. النفر: التفرق. وإن لقيتَه بالهاجرة قلت: لقيته صَكًةَ عُمَىّ " وصَكَة أعْمى ". قال: رؤبة يصف الفلاة إذ لمعت بالسراب في الهاجرة: فإن لقيتَه في اليومين والثلاثة قلت: لقيتُه في الفَرَط ولا يكون الفَرَط في أكثر من خمس عشرة ليلة. فإن لقيتَه بعد شهر ونحوه قلت: لقيته من عُفْر. فإن لقيتَه بعد الحول ونحوه قلت: لقيته عن هَجْر. فإن لقيتَه بعد أعوام قلت: لقيته ذات العُريم. فإن لقيته في الزمان قلت: لقيته ذات الزُمين. والغِبّ في الزيارة: هو الإبطاء فيها. والاعتمار في الزيارة: هو التردد فيها. في ترك الزيارة - منه قولُهم: لا آتيك ما حنَّت النِّيبُ وما أطَّت الإبل وما اختلفت الدّرَة والجِرّة وما اختلف المَلَوَان وما اختلف الجديدان. ولا آتيك الشمس والقمرَ وأبدَ الأبد ويقال: أبد الآبدين ودهْر الداهرين وحتى يرجع السهمُ إلى فُوقه وحتى يَرْجع اللبنُ في الضّرع. ولا آتيك سِنّ الحِسْل. تفسيره: النَيب. جمع ناب وهي المُسنّة من الإبل. والدَرة: الحَلْبة من اللبن. والجرّة: من اجترار البعير. والملوان والجديدان: الليل والنهار. والحِسْل: هو ولد الضبّ. يقول: حتى تَسْقط أسنانه ولا تسقط أبداً حتى يموت. استجهال الرجل ونفي العلمِ " عنه " - منه قولهم: ما يعرف الحوَّ من اللوِّ. وما يعرف الحيّ من الليّ ولا هَرِيراً من غرير ولا قَبيلاَ من دَبير. وما يعرف أيَّ طَرَفَيْه أطرل وأكبر. وما " يعرف هِرّاً من بِرّ. أي ما " يعرف من يَهِرُّه ممن يَبَرّه. والقَبيل: ما أقبلتَ به من فَتل الحَبْل. والدَّبير: ما أدبرت " به " منه. وأيّ طرفيه أطول: أنسَبُ أبيه أم نسب أمّه.
- قال الأصمعي: لم أجد في شعر شاعر بيتاً أوّله مَثلٌ وآخرُه مَثل إلا ثلاثة أبيات منها بَيْتٌ للحطيئة: مَن يفعل الخيرَ لا يَعْدَم جَوَازِيَه لا يذهبُ العُرْف بين الله والناس وبيتان لأمرئ القيس: وأفلتهنَّ عَلبَاءٌ جَريضاً ولو أدْرَكْنَهُ صَفِرَ الوِطَابُ وقاهم جَدُّهم ببني أبيهم وبالأَشْقَين ما كان العِقَابُ ومثلُ هذا كثير في القديم والحديث ولا أدري كيف أغفل القديمَ منه الأصمعيُّ. فمنه قولُ طرفة: ستُبْدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً وَيأتيكَ بالأخبار من لم تُزَوِّدِ وفي هذا مثلان من أشرف الأمثال. ويقال إنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سَمع هذا البيت فقال: إنَّ معناه من كلام النبوَة ومن ذلك قولُ الآخر: ما كلفَ الله نفساً فوق طاقتها ولا تجود يدٌ إلا بما تَجِدُ " ففي الصَّدْر مَثَل وفي العجز مَثَل ". ومن ذلك قولُ الحَسن بن هانئ: أيها المُنتاب عن عُقُره لستَ من لَيْلي ولا سَمَرِه إِنَّ العربَ تقول: انتاب فلان عن عقُره أي تباعد عن أصله. لستَ من ليلي ولا سمره مثلٌ ثانٍ. وليس في البيت الثاني إلا مثلٌ واحد. ومن قولنا في بيتٍ أوله مثلٌ وآخره مثل: وقد صَرَح الأعداء بالبَينْ وأشرَقَ الصُّبْحُ لذي العَيْن وبعده أبيات في كل بيتٍ منها مَثلَ وذلك: وعادَ مَنْ أهوَاه بعد القِلاَ شَقيقَ رُوحٍ بين جِسْمَيْن وأصبَحَ الدَّاخل في بَيْننا كساقِطٍ بين فِرَاشين قد ألبِسَ البِغْضَة ذا وذا لا يَصْلُحُ الغِمْدُ لسَيْفَينْ ما بالُ من ليست له حاجةٌ يكون أنفْاً بذهن عَينين ومن قولنا الذي هو أمثالٌ سائرة: قالوا شبابك قد ولٌى فقلتُ لهمٍ هل من جديدٍ على كر الجديديْنِ صِلْ من هوية وإن أبدى معاتبة فأطيب العيش وصلٌ بين إلفين واقطع حبائل خل لا تلائمه فربِّما ضاقت الدنيا على اثنينَ وقلت بعد هذا في المدح: فكّرْتُ فيك أَبَحْرٌ أنت أم قَمَرٌ فقد تَحَيَّر فِكْرِي بين هذَيْنِ أو قلتُ بدراً رأيتُ البدرَ مُنْتَقَصاً فقلت شتّان ما بين البُدَيْرَيْن ومن الأمثال التي لم تأت إلاّ في الشعر أو في قليل من الكلام: من ذلك قول الشاعر: تَرجو النجاةَ ولم تَسْلُك مَسالكهَا إنَّ السفينةَ لا تَجْري عَلَى اليَبَس " وقال آخر: متى تَنْقَضي حاجاتُ من ليس صابراً على حاجةٍ حتى تكون له أخرَى قيل ولما بلغَ حاتماً قول المُتَلَمِّس: وأَعلمُ عِلمَ صدقٍ غير َظنٍّ لَتَقْوَى الله مِنْ خيْر العَتَادِ وحِفْظ المال أَيْسرُ من بُغَاه وسَيْر في البلاد بغير زاد وإصلاح القَليل يَزيدُ فيه ولا يَبْقَى الكثير مع الفساد قال: قَطَعَ الله لسانَه! يحمِل الناس على البُخْل ألا قال: لا الجودُ يًفْني المالَ قبلَ فَنَائه ولا البًخْلُ في مال الشَحِيح يزيدُ فلا تَلْتَمِسْ مالاً بعيْش مُقَتِّرٍ لكلِّ غَدٍ رزقٌ يعود جديد وقال غيرُه: إذا كنتُ لا أعفُو عن الذَّنب من أخٍ وقلتُ: أُكافيه فأينَ التَّفاضُلُ ولكنني أغْضي الجُفون على القَذَى وأصفَحُ عما رابني وأجَامِل متى ما يَر ِبْني مِفْصَل فقَطَعْتُه بَقيتُ ومالي للنُهُوض مفاصِل ولكنْ أداويه فإن صَحَّ سرني وإنْ هو أعياَ كان فيه التًّحاملُ وقال: يُديفُون لي سًمّاً وأسْقِيهمُ الحَيَا ويَقْرُونَني شَرّاً وشَري مُؤَخَّرُ كأنِّي سَلبْتُ القومَ نُورَ عُيونهم فلا العُذرُ مقبول ولا الذَّنب يُغْفَر وقد كان إحساني لهم غيرَ مَرّة ولكنّ إحسان البَغِيض مُكَفَّر ولغيره: لم يبق من طلب الغنى إلا التعرض للحتوف فلاقبلن وإن رأي ت الموت يلمع في الصفوف إني امرؤٌ لم أوت من أدب ولا حظٍ سخيف لكنه قدرٌ يزو ل من القوي إلى الضعيف
قال أحمدُ بن محمّد بن عبد ربه: قد مضى قولُنا في الأمثال وما تَفَنَنَّوا فيه على كلِّ لسان ومع كلِّ زمان ونحن نبدأ بعوْن اللهّ وتوفيقه بالقَوْل في الزُهد ورجاله المشهورين به ونذكر المُنْتَحَلَ من كلامهم والمواعظَ التي وَعظت بها الأنبياء واْسْتَخْلصها الآباءُ للأبناء وجَرَت بين الحكماءِ والأدباء ومَقاماتِ العُبَّاد بين أيدي الخلفاء. فأبلغ المواعظ كلِّها كلام الله تعالى الأعزّ الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيْه ولا من خَلْفه تنزيلٌ من حكيم حَميد. قال اللهّ تبارك وتعالى: " وقال جلّ ثناؤه: فهذه أبلغُ الحُجَج وَأَحْكم المواعظ. ثم مواعظُ الأنبياء صلواتُ الله عليهم ثم مواعظُ الآباء للأبناء ثمّ مواعظُ الحُكماء والأدباء ثم مَقامات العُبّاد بي أيدي الخُلفاء. ثم قولهم في الزُّهد ورجاله المعروفين ثم المَشْهورين من المنتَسِبين إليه. والموعظةُ ثقيلةٌ على السمع مُحَرِّجة على النفس بعيدة من القَبول لاعتراضها الشًهوة ومُضَادَّتها الهوى الذي هو ربيع القَلْب ومَرَاد الرُّوح ومَرْبَع اللًهو ومَسْرَح الأماني إلا لَنْ تَرْجِعَ الأنْفًسُ عن غَيها حتى يُرى منها لها واعظ وقالت الحكماء: السًعِيد مَن وعِظ بغيره لاَ يَعْنُون مَن وَعظه غيرُه ولكنْ مَن رأى العِبر في غيره فاتِّعظ بها في نفسه. ولذلك كان يقول الحَسَن: آقْدَعُوا هذه النفوس فإنها طُلَعة وحادثوها بالذِّكر فإنها سريعة الدُثور واعْصُوها فإنها إن أُطِيعت نَزَعَتْ إلى شَرَّ غاية. وكان يقول عند انقضاء مجلسه وختْم مَوْعظته: يا لها من موْعظة لو صادفت من القلوب حياةً. وكان ابن السماك يقول إذا فَرَغ من كلامه: أَلْسُنٌ تَصف وقلوب تعرف وأعمال تُخالَف. وقال يونُس بن عُبَيد: لو أُمِرْنا بالجزَع لَصَبرنا. يريد ثِقَل الموعظة على السْمع وجُنوحَ النفس إلى مُخالفتها. ومنه قولهم: أَحَبُّ شيء إلى الإنسان ما مُنِعَا وقولهم: والشيءُ يُرْغَبُ فيه حين يَمْتِنعُ والموعظةُ مانعةٌ لك مما تَشْتهي حاملٌة لك على ما تَكْرَه إلا أن تلْقَاها بِسَمْع قد فَتقَتْه العِبْرة وقلبٍ قدَحَتْ فيهِ الفِكْرَة ونفس لها من عِلْمها زاجر ومن عقلها رادع فيُفْتَح لك بابُ التوبة ويُوَضَحُ لك سبيلُ الإنابة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: حُفَّت الجنّة بالمكاره وخُفَت النار بالشَهوات. يريد أنَ الطريقَ إلى الجنة احتمالُ المكاره في الدنيا والطريقَ إلى النار ركوب وخيرُ الموعظة ما كانت من قائل مخلص إلى سامعِ مُنْصِف. وقال بعضهم: الكلِمة إذا خَرَجَتْ من القلب وقعَتْ في القلب وإذا خرَجَتْ من اللِّسَان لم تُجَاوز الآذان. وقالوا: ما أَحْسَن التاجَ! وهو على رأس المَلِك أَحْسَنُ وما أَحسن الدُّرَّ! وهو على نَحر الفتاة أحسن وما أحسنَ الموعظةَ! وهي من الفاضل التَّقِيّ أحسنُ وقال زياد: أيها الناسُ لا يَمْنَعكم سوء ما تعلمون منّا أن تَنتَفعوا بأحْسَن ما تسمعون منّا قال الشاعر: اعْمَل بقوْلي وَإنْ قَصَّرْتُ في عَمَلي يَنْفَعْكَ قَوْلِي ولا يضْرًرْكَ تَقْصِيري وقال عبدُ الله بن عبّاس. ما انتفعَتُ بكلام أحدٍ بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتفعتُ بكلامٍ كتبَه إليّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه. كَتب إليّ: أمّا بعد فإن المرءَ يَسره إدراكًُ ما لم يَكُن ليَفوتَه ويسوءُه فَوْتُ ما لم يكن لِيُدْرِكه فَلْيَكن سرورُك بما نِلْتَ من أمر آخرِتك ولْيَكن أسفُك على ما فاتَك منها. وما نِلْتَ من أمرِ دُنياك فلا تكن به فَرِحاً وما فاتك منها فلا تَأْسَ عليه جَزَعا وليكن هَمُّك ما بعد الموت. ووقَفَ حكيم بباب بعض المُلوك فَحُجب فتلطّف برُقْعة أَوْصَلَها إليه. وكتب فيها هذا البيت: أَلم تَرَ أَنَّ الفَقْرَ يُرجى له الغِنَى وأَنَ الغِني يُخشى عليه من الفقرِ فلمّا قرأ البيتَ لم يلبث أن انتعل وجَعل لاطئةً على رأسه وخرج في ثوْب فِضَال: فقال له: واللهّ ما اتّعظتُ بشيء بعد القرآن اتعاظي ببَيْتك هذا ثمّ قضى حوائجه.
قال أبو بكر أبي شْبَة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يكفي أحدَكم من الدنيا قدرُ زادِ الرَّاكب. وقال صلى الله عليه وسلم: ابن آدم اغْتنم خَمْساً قبل خمس: شبابَك قبل هَرمك وصِحَّتك قبل سَقَمك وغِناك قبل فَقْرك وفَراغك قبل شُغْلك وحياتَك قبل مَوْتك. عبد الله بن سلاًم قال: لما قَدِم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتيتُه فلمّا رأيتُ وجهه عَلمْتُ أنّه ليس بوجِه كذّاب فسمعتُه يقول: أيها الناسُ أطعِموا الطعامَ وأَفْشوا السلامَ وصلُوا والناسُ نيام. وقال عيسى بنُ مرْيِمِ عليه السلام: أَلا أُخْبِركم بخيركم مُجالسةً قالوا: بلى يا رُوح الله قال: مَن تُذكركم باللهّ رؤيتُه ويَزيد في عَمَلكم مِنْطِقُه ويَشُوقكم إلى الجنة عملُه. وقال عيسى بن مريم عليهما السلام للحواريين: ويلكم يا عَبيد الدُّنيا! كيف تُخالف فروعُكم أصولَكم وأهواؤكم عقولَكم قولُكم شِفاءٌ يبرئ الداء وَفِعْلكُم داء لا يقبلُ الدواء لستُم كالكَرْمَة التي حَسُنَ وَرَقها وطابَ ثَمَرُها وَسَهُل مُرْتَقاها ولكنكم كالسَّمُرهَ التي قَلّ وَرَقُها وكثر شَوْكها وصَعُب مُرْتقاها. ويلكم يا عَبيدَ الدنيا! جعلتم العملَ تحت أقدامكم من شاءَ أخذَه وجعلتم الدنيا فوق رؤوسكم لا يمكن تناوًلها فلا أنتم عبيدٌ نُصحاء ولا أحرارٌ كِرام. ويلكم يا أُجَرَاءَ السَّوْء! الأجْر تأخذون والعملَ تفْسِدون سوف تَلْقَوْن ما تحذَرون إذا نظر ربُّ العمل في عَمَلِه الذيٍ أفسدتُم وأجرِه الذي أخذتُم. وقال عليه السلام للحواريين: اتخذوا المساجِدَ بُيُوتاً والبيوتَ منازلَ وكُلُوا بَقْل البرّيّة واشربوا الماءَ القَرَاح وانجُوا من الدنيا سالمين. وقال عليه السلام للحواريّيِن: لا تنظُروا في أعمال الناس كأنكم أَرْباب وَانظروا في أعمالكم كأنكم عَبيد فإنما الناسُ رجلان: مُبْتَلًى ومُعافي فارحموا أهلَ البلاء واحمدَوا الله عَلَى العافية. وقال عليه السلامُ لهم أيضاً: عجَباً لكم تَعْملُون لِلدُّنيا وأنتم تُرزقون فيها بلا عَمل ولا تَعملون للآخرة وأنتم لا تُرْزَقون فيها إلا بعمل. وقال يحيى بن زكريا عليه السلام للمُكَذِّبين من بني إسرائيل: يا نَسْلَ الأفاعي من دلَكم على الدخول في مَساخط الله المُوبقة لكم ويلكم! تَقرًبوا بِعَمَل صالح ولا تَغُرَّنَّكم قرابتكم من إبراهيم " عليه السلام " فإن الله قادر على أن يَسْتخرج من هذه الجنادِل نَسْلاً لإبراهيم. إن الفأس قد وُضِعَتْ في أصول الشجر فأَخْلِق بكلِّ شَجَرَة مُرَّة الطَّعم أن تًقْطع وتُلقى في النار. وقال شَعْيَاء لبنىِ إسرائيل إذ أنطق الله لسانه بالوَحي: إن الدابّة تَزْداد على كثرة الرِّياضة لِيناً وقُلوبَكم لا تَزداد على كثرة المَوْعظة إلاّ قَسْوة إنّ الجَسد إذا صلَح كفاه القليلُ من الطَّعام وإنِّ القَلْب إذا صَحَّ كَفاه القليلُ من الحِكْمة. كم من سِرَاج قد أَطْفَأَتْه الرِّيح وكم من عابدٍ قد أفسده العُجْب. يا بني إسرائيل اسمعوا قولي فإنّ قائلَ الحِكمة وسامعَها شريكان وأَوْلاهما بها مَن حقَّقها بعمله. وقال المسيحُ عليه السلام: إنَ أَوْليَاء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحْزنون الذين نَظَروا إلى باطن الدُّنيا إذ نَظر الناسُ إلى ظاهرها وإلى اجلها إذ نَظروا إلى عاجلها فأماتُوا منها ما خَشُوا أن يُمِيتهم وتركوا ما علموا أن سَيَترْكهم هم أعداء لما سالم الناسُ وسَلْم لما عادى الناسُ لهم خبرٌ وعندهم الخبر العجيب بهم نَطَق الكِتابُ وبه نَطقوا وبهم عُلِم الهُدى وبه عُلِمُوا لا يَرَوْنَ أماناً دون ما يَرْجون ولا خَوْفاً دون ما يَحْذَرُون. وَهْب بن مُنَبِّه: قال " قال " داودُ عليه السلام: يا رب ابن آدم ليس منه شَعَرة إلا وتحتها لك نِعْمة وفوقها لك نِعْمة فمَن أيْن يُكافئُك بما أعطيتَه فأوْحى الله إليه: يا داود إني أًعطي الكثير وأَرْضى من عبادي بالقليل وأَرْضى من شُكْر نِعْمتي بأن يعلم العبدُ أن ما به من نِعْمة فمن عندي لا من عِنْد نفسه. ولمّا أمر الله عزً وجلَّ إبراهيم عليه السلامُ أن يَذبح ولده ويجعلَه قُرْباناً أَسرَّ بذلك إلى خليل لهُ يقال له العازر وكان له صديقاً فقال له الصديق: إن الله لا يَبْتلى بمثل هذا مِثْلَك ولكنه يريد أن يختَبِرك أو يَخْتبر بك وقد علمتَ أنه لا يبتليك بمثل هذا لِيَفْتنك ولا ليُضلك ولا ليُعْنتك ولا ليَنْقُصَ به بصيرَتك وإيمانَك ويَقينك فلا يَرُوعَنّك هذا ولا يَسُوأَنَ بالله ظنك وإنما رَفع الله اسمك في البلاء عنده على جميع أهل البلايا حتى كنت أعظمَهم مِحْنة في نفسك ووَلدك لِيَرْفعك بقَدر ذلك في المنازل والدرجات والفَضَائل فليس لأهل الصبر في فضيلة الصَبر إلا فضلُ صبْرك وليس لأهل الثواب في فضيلة الثواب إلا فضلُ ثوابك وليس هذا من وُجوه البلاء الذي يَبْتلي الله به أولياءه لأنّ الله أكرمُ في نفسه وأعدل في حكمه وأَرْحم بعباده من أن يجعل ذبح الولد الطيب بيد الوالد النبي المُصْطفي وأنا أعوذ باللّه أن يكون هذا منّي حتْماً على الله أو ردَّاً لأمره أو سُخطاً لِحُكمه ولكنْ هذا الرَّجاء فيه والظنُّ به فإن عَزَم ربُّك على ذلك فكُنْ عند أَحْسَن علمه بك فإني أعلمُ أٍنه لم يُعرِّضك لهذا البلاء الجَسيم والخَطْب العظيم إلا لحُسْن عِلْمه بك وصِدْقك وتَصَبرك ليجعلك إماماً ولا حَوْل ولا قوّة إلاّ باللهّ العليّ العظيم. من وحي الله تعالى إلى أنبيائه أَوْحى الله عزّ وجلّ إلى نبيّ من أنبيائه: إنّي أنا اللهّ مالكُ المُلوك قلوبُ المُلوك بيديِ فمَن أطاعني جعلتُ الملوكَ عليهم رحمةً ومَن عَصاني جعلتُ الملوك عليهم نِقْمةَ. ومما أنزل اللَهُ على المسيح " عليه السلام " في الإنجيل: شَوَقناكم فلم تشتاقوا ونُحْنا لكم فلم تبكوا. يا صاحبَ الخمسين ما قدَمْتَ وما أَخّرْت ويا صاحبَ السِّتين قد دنا حَصادُك ويا صاحبَ السَبْعين هلمّ إلى الحِساب. وفي بعض الكُتب القديمة المنزّلة: يقول الله عزّ وجل يومَ القيامة: يا عِبادي طالما ظَمِئتم وتقلَّصت في الدنيا شِفاهُكم وغارت أعينكم عطَشاً وجُوعاً فكُلُوا واشربوا هَنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية. وأوحْى الله تعالى إلى نبيّ من أنبيائه: هَبْ لي من قلْبك الخُشوع ومن نَفْسك الخضوع ومن عَينيْك الدموع وسَلْني فأنا القريب المجيب. وفي بعض الكتب: عَبْدي كم أتحبّب إليك بالنِّعم وتَتبغَّض إلي بالمَعاصي! خَيْري إليك نازل وشرُّك إليّ صاعد. وأوْحى الله إلى نَبيّ من أنبيائه: إن أردتَ أن تَسكن غداً حظيرةَ القُدْس فكُنْ في الدنيا فريداً وحيداً طريداً مهموماً حزيناً كالطير الوُحْدانيّ يَظَلّ بأرض الفَلاة ويَرِدُ ماء العيون ويأكل من أطراف الشجر فإذا جَنَّ عليه الليلُ أَوَى وحدَه استيحاشاَ من الطير واستئناساً بربه. ومما أوحى الله إلى موسى في التوراة: يا موسى بن عمران يا صاحبَ جبل لُبْنان أنت عَبْدي وأنا الملك الديّان لا تستذلَّ الفقيرَ ولا تَغْبِط الغَنيّ " بشيء يسير " وكُن عند ذكْرى خاشعاً وعند تلاوة وَحْيي طائعاً أسْمِعني لذاذةَ التوراة بصوت حزين. وقال وَهْبُ بن مُنَبِّه: أوحي اللهّ إلى موسى عند الشجرة: لا تُعْجبك زينةُ فِرْعون ولا ما مًتِّع به ولا تَمُدَّنْ إلى ذلك عينَك فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينةُ المترَفين ولو شئتُ أن أُوتيك زينة يَعْلِم فرْعون حين ينظر إليها أنّ مقْدِرَتَه تعجِزُ عنها فعلتُ ولكني أرغبتُك عن ذلك وأَزْوَيْته عنك فكذلك أفعل بأوليائي إني لأذودهم عن نعيمها ولذاذتها كما يذًود الراعي الشفيقُ غَنَمه عن مراتع الهَلَكة وإني لأحمِيهم عيشَها وسَلْوَتها كما يَحْمِي الراعي ذَوْده عن مَبَارك العُرّ. وذُكر عن وَهْب بن مُنَبّه: أنّ يوسف لما لَبِثَ في السجن بِضْع سنين أرسل اللهّ جبريلِ إليه بالبِشارة بخروجه فقال: أما تَعْرِفُني أيها الصدِّيق قال يوسف: أرى صورةَ طاهرة ورُوحاً طيِّباً لا يُشبِه أرواح الخاطئين قال جِبْريلُ: أنا الرُّوح الأمين رسولُ ربّ العالمين قال يوسف: فما أَدْخلك مَداخل المُذْنبين وأنت سيِّد المُرسلين ورأسُ المُقَرَّبين قال: ألم تَعلم أيها الصِّدَيق أن الله يُطَهَر البيوت بطُهْر النبيين وأن البُقعة التي تكون فيها هي أطهرُ الأرَضين وأَنّ الله قد طهَر بك السجن وما حوله يا بن الطّاهرين قال يوسف: كيف تُشَبهني بالصالحين وتسميني بأسماء الصادقين وتَعُدُني مع آبائي المُخلصين وأنا أسير بين هؤلاء المجرمين قال جبريل: لم يَكْلَم قلبك الجَزْع ولم يغير خلقك البَلاء ولم يَتعاظَمْكَ السجن ولم تَطَأْ فراشَ سيّدك ولم يُنْسك بلاء الدُّنيا الاخرة ولم يُنْسك بلاء نفسك أباك ولا أبوك ربك وهذا الزَّمان الذي يَفُك الله فيه عُنُقك وَبعتِق فيه رَقَبتك ويبين للناس فيه حِكْمَتَك ويُصَدِّق رؤياك ويُنْصفك ممن ظَلمك ويجمع لك أَحِبَّتك ويهَب لك مُلْك مصر تملك ملوكها وتُعَبِّد جبابرتها وتُصَغر عظماءها وُيذِلُّ لك أَعِزَتها ويُخْدِمُك سُوقَها ويُخَوَلك خَوَلَها ويرحم بك مساكينَها ويُلْقي لك المودّة والهيْبة في قلوبهم ويجعل لك اليد العُليا عليهِم والأثَر الصالح فيهم ويُرى فرعونَ حُلْماً يفزَعُ منه حتى يسهرَ ليلَه ويُذْهبَ نوْمَه ويُعَمَي عليه تفسيرَه وعلى السَّحَرة والكهنة ويُعَلِّمك تأويلَه.
قال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وَجْهَه: أُوصيكمِ بخَمس لو ضرَبتم عليها آباط الإبل لكان قليلاً: لا يَرْجًوَن أحدكم إلا ربّه ولا يخافنَ إلا ذنبه ولا يستحي إذا سُئل عما لا يَعلم أن يقول: لا أعلم. وإذا لم يعلم الشيء أن يتعلّمه واعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا قُطع الرأس ذهب الجسد. وقال أيضاً: من أراد الغِنَى بغير مال والكثرةَ بلا عَشية فليتحوَّل من ذُلِّ المَعصية إلى عزِّ الطاعة " أبى الله إلا أن يُذِلّ مَن عصاه. وقال الحسنُ: مَن خاف اللهّ أخاف اللهّ منه كل شيء ومن خاف الناسَ أخافه الله من كل شيء. وقال بعضُهم: من عَمِلَ لأخرته كَفَاه الله أمرَ دنياه ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح اللهّ ما بينه وبين الناس ومَن أخلص سريرتَه أخلص الله علانيَته. قال العُتْبيّ: اجتمعت العربُ والعجم على أربع كلمات: قالوا: لا تَحْملنّ على قلبك مالا يُطِيق ولا تعملنَّ عملاَ ليس لك فيه مَنْفعة ولا تَثِقْ بامرأة ولا تغتر بمال وإن كثُر. وقال أبو بكر الصدِّيق لعُمَر بن الخطّاب رضي الله عنهما عند مَوته حين استخلْفه: أُوصيك بتقوى الله إن للّه عملاً بالليل لا يَقْبَلُه بالنهار وعملا بالنهار لا يَقْبَله بالليل وإنه لا يقبل نافلة حتى تُؤَدَّى الفرائض وإنما ثَقُلَتْ موِازين مَن ثقُلت موازينهم يومَ القيامة باتباعهم الحقّ وثقَلِه عليهم وحُقّ لميزانٍ لا يُوضعِ فيه إلا الحقُّ أن يكون ثقيلا وإنما خَفّت موازينُ من خَفّت موازينهم يومَ القيامة باْتباعهم الباطل في الدُّنيا وخِفّته عليهمِ وحُقِّ لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفاً وإن الله ذَكَر أهلَ الجنَّة فَذكَرهم بأحسن أعمالهم وتجاوَزَ عن سيئاتهم فإذا سمعتَ بهم قُلْت: إني أخاف أن لا أكون من هؤلاء وذكرَ أهل النار بأقبح أعمالهم وأمسك عن حَسَناتهم فإذا سمعتَ بهم قلتَ: أنا خيرٌ من هؤلاء وذكر آية الرّحمة مع آية العذاب ليكونَ العبدُ راغباً راهباً لا يتمنى على الله غيرَ الحق. فإذا حفظت وصيَّتي فلا يكون غائبٌ أحبَّ إليك من الموت وهو آتيك وإن ضيّعْت وصيَّتي فلا يكون غائبٌ أكرَه إليك من الموت ولن تُعْجزه. ودخل الحسن بن أبي الحسن على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه فرآه يُصَوِّب بصره في صُندوق في بيته وُيصَعِّده ثم قال: أبا سَعِيد ما تقول في مائة ألف في هذا الصندوق لم أُؤَدِّ منها زكاةً ولم أصِل منها رَحِماً قال: ثَكِلَتْكَ أُمك ولمن كنتَ تَجْمعها قال: لرَوْعة الزِمان وجَفْوة السلطان ومُكاثرة العَشيرة. قال: ثم مات فشَهده الحسنُ فلما فَرَغ من دَفْنِه قال: انظروا إلى هذا المِسكين أتاه شيطانُه فحذّره رَوْعة زَمانه وجفوة سُلطانه ومُكاثرة عشيرته عما رزقه اللهّ إياه وغَمره فيه انظروا كيف خرج منها مَسْلوباً محروباً. ثم التفتَ إلى الوارث فقال: أيها الوارث لا تُخْدَعَنّ كما خُدِعَ صوَيْحبك بالأمس أَتاك هذا المال حلالاً فلا يكونن عليك وبالا أتاك عفواً صفواً ممن كان له جمُوعا مَنُوعا من باطل جَمَعه ومن حقً مَنَعه قطع فيه لُجَجَ البِحار ومفاوِزَ القِفار لم تَكْدح فيه بِيَمين ولم يَعْرَق لك فيه جَبين. إِنّ يوم القيامة يوم ذو حَسَرَات وإن من أعظم الحسرات غداً أن ترى مالك في ميزان غيرك فيالها عَثَرة لا تُقال وتوبة لا تُنال. ووعظَ حكيم قوماً فقال: يا قوم استَبْدِلوا العَوَارِيَ بالهِبات تَحْمَدوا العُقْبَى واستقْبِلوا المصائب بالصَبْر تستحِقُّوا النُّعْمَى واستَدِيموا الكَرَامة بالشُّكر تَسْتَوْجبوا الزِّيادة واعرفوا فَضْل البَقاء في النِّعمة والغِنَى في السلامة قبل الفِتْنَة الفاحِشةِ والمَثُلة البينة وانتقال العَمَل وحُلول الأجَل فإنما أنتم في الدُّنيا أَغراض المَنايا وأَوطان البلايا ولن تنالوا نِعْمَة إلا بِفِراق أُخرى ولا يَسْتقبل مُعَمَّر مِنكم يوماً من عُمره إلا بانتقاص آخرَ من أجله ولا يَحيا له أَثر إلا مات له أَثر. فأنتم أعوان الحُتُوف على أنفسكم وفي معايشكم أسبابُ مَنَاياكم لا يَمنعكم شيء منها ولا يَشْغَلكم شيء عنها. فأنتم الأخْلاف بعد الأسلاف وستكونون أَسلافاً بعد الأخلاف. بكل سبيل منكمِ صَرِيعٌٍ مُنْعَفر وقائم يَنْتظر فمن أيّ وجه تَطْلُبون البَقَاء وهذان الليلُ والنهِارُ لم يرْفعا شيئا قَطّ إلا أسرَعا الكرَّة في هَدْمه ولا عقدا أَمراً قطُّ إلاَّ رَجَعا في نقضه. وقال أبو الدَّرْداء: يا أَهل دمَشق مالكم تَبْنون مالا تسكنون وتأمُلون ما لا تُدرِكون وتَجمعون ما لا تأكلون هذه عادٌ وثمود قد مَلَئُوا ما بين بُصْرَى وعَدَن أموالاً وأولاداً فمن يَشْتري مني ما تركوا بدرهمين وقال ابن شُبْرُمَة: إذا كان البَدَن سقيماً لم يَنجع فيه الطعام ولا الشراب وإذا كان القلب مُغْرَماً بِحُبّ الدنيا لم تَنْجِع فيه الموعظة. وقال الرًبيع بن خُثَيم: أَقْلِل الِكلام إلا من تِسع: تكبيرِ وتهليل وتسْبيح وتَحْمِيد وسؤالِكَ الخير وتَعَوّذِك من الشرّ وأمرِكَ بالمعروف ونهْيِكَ عن المُنْكر وقراءتك القرآن. قال رجل لبعض الحًكماء: عِظْني. قال: لا يَراك اللهّ بحيث نَهَاك ولا يَفْقِدك من حيثُ أمرَك. وقيل لحكيم: عِظْني. قال: جميعُ المواعظ كلّها مُنتظمة في حرف واحد قال: وما هو قال: تُجْمِع على طاعة اللّه فإذا أنت قد حَوَيت المواعظ كُلَّها. وقال أبو جعفر لسُفْيان عِظْني. قال: وما عَمِلتَ فيما عَلِمْتَ فأعِظَك فيما جهلتَ. قال هارون لابن السمّاك: عِظني. قال: كفي بالقرآن واعظاً يقول الله تبارك وتعالى: " إرَمَ ذَاتِ العِماد التي لمْ يُخْلَق مثلُها في البِلاد إلى قوله " إنَّ ربك لبَالمِرْصاد مكاتبة جرت بين الحكماء عَتَبَ حَكيمٌ على حكيم فَكَتَبَ المَعْتُوبُ عليه إلى العاتب: يا أخي إنّ أيام العُمْر أقصرُ من أن تحتمل الهَجْر. فَرَجع إليه. وكتب الحسنُ إلى عُمَر بن عبد العزيز: أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكُن وبالآخرة لم تَزَل. والسلام. وكتب إليه عُمر: أما بعد فكأنّ آخر من كُتِبَ عليه الموت قد مات والسلام. ابن المُبارك قال: كتب سَلْمان الفارسيّ إلى أبي الدّرداء: أما بعد فإنك لن تنال ما تُريد إلا بترْكِ ما تشتهي ولن تنال ما تأمُل إلا بالصَّبر على ما تَكْره. فَلْيكُن كلامُك ذِكْراً وصَمْتك فِكْرا ونظرك عِبَرا فإنّ الدُّنيا تتقلب وبهجتها تتغيَّر فلا تغترّ بها وليكن بيتُك المسجدَ والسلام. فأجابه أبو الدَّرداء: سلامٌ عليك أما بعد فإنِّي أُوصيك بتَقْوَى اللّه وأن تأخذ من صِحَّتِك لِسَقَمِك ومن شبابك لهِرَمك ومن فراغك لِشُغلك ومن حياتك لمَوْتك ومن جَفائك لمودَّتك واذكر حياةً لا موتَ فيها في إحدى المنزلتين: إما في الجنة وإما في النار فإنك لا تَدْري إلى أيهما تَصير. وكتب أبو موسى الأشعريّ إلى عامر بن عبد القَيْس: أما بعد فإني عاهدتُكَ على أمر وبَلغني وكتب محمد بن النَّضر إلى أخِ له: أما بعدُ فإنك على مَنْهج وأمامك منزلان لا بدلك من نُزول أحدهما ولم يَأتِك أمانٌ فتَطْمَئنَّ ولا براءة فتتَّكل. وكتب حكيم إلى آخر: اعلم حَفِظك اللّه أنّ النفوس جُبِلت على أخذ ما أُعْطِيتْ وَمَنْع ما سُئِلتْ فاحْمِلها على مَطيّة لا تُبطىءُ إذا رُكبت ولا تُسْبَق إذا قُدِّمَتْ فإنما تحفظا لنفوسُ على قدْر الخوف وتَطْلُب على قَدْرِ الطمع وتطْمَع على قدر السبب. فإذا استطعت أن يكون معك خَوْف المُشْفِق وقناعة الرّاضي فافعل. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجاء بن حَيْوة: أما بعد فإنه مَن أكثر من ذِكْر الموت اكتفى باليَسِير: ومن عَلِمَ أن الكلامَ عملٌ قلَّ كلامهُ إلا فيما يَنْفَعه. وكتب عمر بن الخطّاب إلى عُتبة بن غزوان عامِله على البَصْرة: أما بعد فقد أصبحتَ أميراً تقول فيُسمع لك وتأمر فينفّذ أمرُك فيالها نعمةً إن لم تَرْفعك فوق قَدْرك وتُطْغِك على مَن دونك فاحترَس من النِّعمة أشدّ من احتراسك من المُصيبة وإياك أن تَسْقُطَ سَقْطَة لا لعاً لها - أي لا إقالة لها - وتَعْز عَثْرة لا تُقالها والسلام. وكتب الحسن إلى عمَر: إن فيما أمرك الله به شُغلا عما نهاك عنه والسلام. وكتب عمرُ بن عبد العزيز إلى الحسن: اجمع لي أَمْر الدنيا وصِفْ لي أَمرَ الآخرة. فكتب إليه: إنما الدُّنيا حُلْم والآخرة يَقَظَة والموت متوسِّط ونحن في أضغاث أحْلام من حاسَبَ نَفْسَه ربح ومن غَفلَ عنها خَسِر ومن نَظر في العواقِب نَجَا ومن أطاعَ هواه ضَلَّ ومن حَلُم غَنِم ومن خافَ سَلِمَ ومن اعتبر أَبْصَرَ ومن أبصرَ فَهِمَ ومن فَهِمَ عَلِمَ ومن عَلِم عَمِلَ فإذا زَلَلْتَ فارْجعِ وإذا نَدِمْتَ فأَقْلِع وإذا جَهِلْت فاسأل وإذا غَضِبْتَ فأمْسِك واْعلم أن أفضل الأعمال ما أُكْرِهَت النفوس عليه.
قال لُقمانُ لابنه: إذا أتيت مجلسَ قومٍ فاْرمهِمْ بسَهْم السلام ثم اجلس فإن أفاضوا في ذِكر اللهّ فأَجِلْ سَهمْك مع سِهامهم وإن أفاضوا في غير ذلك فَتَخَلَّ عنهم وانهض. وقال: يا بني استَعِذ باللّه من شِرَار الناس وكُنْ من خِيارهم على حَذَر. ومثلُ هذا قولُ أكثَم بن صَيْفي: احذر الأمين ولا تأتمن الخائن فإنّ القُلوب بيد غيرك. وقال لُقمان لابنه: لا تركنْ إلى الدنيا ولا تَشْغَل قلبك بها فإِنك لم تُخْلَق لها وما خَلَق الله خَلْقاً أهون عليه منها فإنه لم يجعل نعيمَها ثواباً للمُطيعين ولا بلاءَها عُقوبة للعاصين. يا بني لا تضحك من غير عجب ولا تَمْش في غير أرب ولا تسأل عما لا يَعْنيك. يا بني لا تُضَيِّع مالَك وتُصلِحْ مالَ غيرك فإنّ مالَك ما قدَّمت ومالَ غيرك ما تركت. يا بني إنه من يَرْحم يُرْحَم ومن يَصْمُت يَسْلم ومن يَقُل الخير يَغْنَم ومَنْ يقُل الباطل يأثَم ومن لا يملك لِسانَه ينْدم. يا بني زاحم العلماء برُكْبتَيْك وأنصت إليهم بأًذنَيك فإِنّ القلب يَحيا بنُور العُلماء كما تحيا الأرض المَيتة بمطر السماء. وقال خالدُ بن صَفْوان لابنه: كُن أحسنَ ما تكون في الظاهر حالاً أقلّ ما تكون في الباطن مآلاً ودَعْ من أعمال السرِّ مالا يَصْلُح لك في العلاَنِيَة. وقال أعرابي لابنه: يا بني إنه قد أَسْمَعك الدَّاعي وأعذر إليك الطالب وانتهى الأمرُ فيك إلى حَدّه ولا أعرِفُ أعظمَ رزيّة ممن ضَيَّعَ اليقين وأَخْطأه الأمَلً. وقال عليًّ بن الحسين لابنه وكان من أفضل بني هاشم: يا بني اصبر على النّوِائب ولا تَعرّض للحُتوف ولا تًجبْ أخاك من الأمر إلى ما مَضرّتُه عليك أكثر من مَنْفعَته لك. وقال حكيم لبنيه: يا بني إياكم أن تكونوا بالأحداث مُغْتَرين ولها آمنين فإني واللّه ما سَخِرْت من شيء إلا نزل بي مثله فاحذَروها وتوقَّعوِها فإنما الإنسان في الدُّنيا غرَضٌ تَتَعاوره السِّهام فمُجَاوزٌ له ومُقصِّر عنه وواقعٍ عن يمينه وشماله حتى يُصيبه بعضها واعلموا أن لكل شيء جرَاءَ ولكل عمل ثواباً. وقد قالوا: كما تَدِين تُدَان ومن بَرِّ يوماً بُرَّ به. وقال الشاعر: إذا ما الدَّهر جرَّ على أُناس حوادثَه أناخَ بآخَرِينَا فقُلْ للشّامتين بنا أَفيقوا سَيَلقى الشامِتون كما لقِينا وقال حكيم لابنه: يا بني إني مُوصيك بوصيّة فإن لم تحفظ وصيتي عنّي لم تَحْفَظها عنِ غيري: اتّق الله ما استطعتَ وإن قَدَرْت أن تكون اليومَ خيراً منك أمس وغداً خيراَ منك اليومَ فافعل وإياك والطمعَ فإنه فَقْرٌ حاضِر وعليك باليأسِ فإنك لن تيأسِ من شيء قطُّ إلا أغناك اللهّ عنه وإياك وما يُعْتَذر منه فإنك لن تَعْتذر من خير أبداَ وإذا عَثر عاثر فاحمد اللهّ أن لا تكون هو. يا بني خذِ الخيرَ من أهله ودع الشرً لأهله وإذا قُمتَ إلى صَلاتك فَصلِّ صلاة وقال عليًّ بن الحُسن عليهما السلام لابنه: يا بني إن الله لم يَرْضَك لي فأَوْصاك بي ورَضيَنى لك فَحَذّرَني منك واعلم أَنّ خيرَ الآباء للأبناء مَن لم تَدْعًه المودة إلى التفريط فيه وخيرَ الأبناء للآباء منِ لم يَدْعُه التقصيرُ إلى العُقوق له. وقال حكيم لابنه: يا بني إن أشدَّ الناس حسرةً يومَ القيامة رجلٌ كَسَب مالاً من غير حِلّه فأدخله النارَ وأوْرَثه مَنْ عَمِل فيه بطاعة الله فأدخله الجنة. عَمْرو بن عُتْبَة قال: لما بلغتُ خمسَ عشرةَ سنة قال لي أبي: يا بني قد تَقَطعَتْ عنك شرائع الصِّبَا فالزَم الحياء تكن منِ أهله ولا تُزَايِلْه فَتَبِين منه ولا يَغُرَّنك من اغترَّ بالله فيك فمَدحك بما تعلم خلافه من نفسك فإنه من قال فيك من الخير ما لم يعْلَم إذا رَضي قال فيك من الشرّ مثلَه إذا سَخِط. فاستأنس بالوُحْدَة من جُلساء السَّوء ِتَسْلَم من غِبّ عواقبهم. وقال عبد الملك بنُ مَرْوَان لبَنيه: كُفّوا الأذى وابذُلوا المعرِوف واعْفوا إذا قَدَرْتم! ولا تَبْخَلوا إذا سئلتم ولا تُلْحِفوا إذا سألتم فإنه من ضيّق ضُيِّق عليه ومن أعطى أخْلَفَ اللهّ عليه. وقال الأشعثُ بن قيس لبنيه: " يا بني " " لا " تَذِلُّوا في أعراضكم وانخدعوا في أموالكم ولتَخِفَّ بُطونُكم من أموال الناس وظًهوركم من دمائهم فإنّ لكلِّ امرىء تَبِعة وإياكم وما يُعتَذر " منه " أو يُستحى فإنما يُعتذر من ذنب ويستحى من عَيب وأصْلِحوا المالَ لجفوة السُّلطان وتَغيُّر الزمان وكُفُّوا عند الحاجة عن المسألَة فإنه كَفي بالردّ مَنْعا وأجملُوا في الطلب حتى يوافق الرِّزْق قدَرا وامنعوا النساءَ من غير الأكفاء فإنكم أهلُ بَيْت يتأسىّ بكم الكريمُ ويتشرَف بكم اللئيم وكونوا في عوامّ الناس ما لم يَضْطرب الحبْلُ فإذا اضطرب الحبلُ فالحقوا بعشائركم. وكتب عمرُ بن الخطّاب إلى ابنه عبد الله في غَيْبة غابها: أمَّا بعد فإنّ مَنِ اتقى اللّه وَقاه ومن اتْكل عليه كفاه ومن شكَرَ له زاده ومن أقْرَضه جَزاه فاجعل التًقوى عِمارة قلبك وجَلاءَ بَصرك فإنه لا عمَل لمن لا نِيَّة له ولا خيرَ لمن لا خَشْيَة له ولا جديد لمن لا خلق له. وكتب عليُّ بن أبي طالب إلى وَلده الحَسن عليهما السلام: من عليّ أمير المؤمنين الوالدِ الفان المقرّ للزَّمان المًستَسْلم للحَدَثان: المُدْبر العُمر المُؤمّل ما لا يُدْرك السالك سبيلَ مَن قد هَلَك غرَض الأسقام ورهينة الأيّام وعبْد الدنيا وتاجر الغُرور وأسير المنَايَا وقرين الرَّزايا وصريع الشهوات ونُصْب الآفات وخليفة الأموات أما بعد يا بني فإن فيما تَفكرَّت فيه من إدبار الدُّنيا عني وإقبال الآخرة إليّ وجُموح الدهر علىّ ما يُرَغِّبنى عن ذكر سوايِ والاهتمام بما ورائي غيرَ أنه حين تفرّد بي همّ نفسي دون همّ الناس فَصدَقني رأي " وصرَفني عن هواي " وصرزَح بي مَحْضُ أمري فأَفْضىَ بي إلى جِدٍّ لا يُزْري به لَعِب وصِدْق لا يَشو به كَذِب وَوَجَدْتُك يا بُنيّ بَغضي بل وجدتُك كُلِّي حتى كأنّ شيئاً لو أصابك لأصابني وحتى كأنّ الموت لو أتاك أتاني فعند ذلك عَنَاني من أمرك ما عَنَاني من أمر نَفْسي. كتبتُ إليك كتابي هذا يا بُني " مُستظهراً به " إن " أنا " بَقِيت " لك " أو فَنِيت فإني مُوصيك بتقوى الله وعِمَارة قلبك بذكره والاعتصام بحَبْله فإنَّ الله تعالى يقول: " أحْي قلبك بالموْعظة ونَوَره بالحكمة وأَمِّنه بالزًّهْد وذَلِّلهُ بالموت وقَوِّهِ بالغِنَى عن الناس وحَذِّرْه صولةَ الدَّهر وتقلُّبَ الأيام والليالي. واعرض عليه أخبارَ الصين وسِرْ في ديارهم وآثارهم فانظرُ ما فعلوه وأين حلُّوا فإنك تَجِدهم قد اْنتقلوا عن دار الأحبّة ونزلوا دارَ الغُرْبة وكأنك عن قليل يا بنيّ قد صرت كأحدهم فبعْ دنياكَ بآخرتك ولا تبعْ آخرتك بدُنياك ودَع القولَ فيما لا تَعْرِف والأمرَ فيما لا تكلًف وأْمُر بالمعروف بيَدِك ولسانك وَانْهَ عن المنكر بيدك ولسانك وبايِنْ مَن فعَلَه وخُض الغَمَرَاتِ للحق ولا تأخُذْك في الله لوِمةُ لائم واحفظ وَصيَّتي ولا تَذْهَب عنك صَفْحاً فلا خير في عِلْم لا ينفع. واعلم " أنَّ أمامك طريقاً ذا مسافة بعيدة ومشقة شديدة " وأنه لا غِنى لك فيه عن حُسْن الارتياد مَع بلاغك منِ الزَّاد. فإن أصَبتَ من أهلِ الفاقة مَنْ يحمل عنك زادك فيُواِفيك به في مَعارك فاغْتنِمه فإن أَمامك عَقَبَةً كَؤُداَ لا يُجاوزها إلا أخفُّ الناس حْملاَ فأَجْمل في الطلب وأحسِن المكتسب فرُب طَلَب قد جرَّ إلى حَرَب وإنما المحْرُوب من حُرِبَ دِينُه والمسلوبُ من سُلِب يقينه. واعلم أنه لا غِنى يَعْدِل الجنَّة ولا فقْرَ يَعْدِل النار. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وكتب إلى ابنه محمد بن الحنفية: أنْ تَفَقّه في الدّين وعَوِّد نفسَك الصبر على المَكْروه وكِلْ نَفْسَك في أمورك كلِّها إلى الله عزَّ وجلَّ فإنك تَكِلًها إلى كهف. وأخْلِص المسألة لربِّك فإنّ بيده العَطاء والحِرمان. وأكثر الْاسْتخارة له واعلم أنَّ من كانت مَطيّته الليلَ والنهار " فإنه " يُسار به وإن كان لا يَسير فإنَّ الله تعالى قد أبى إلا خرابَ الدنيا وعمارة الآخرة. فإن قَدرتَ أن تَزْهد فيها زُهْدَك كلّه فافعل ذلك وإن كنتَ غير قابل نَصِيحتي إيّاك فاعلَم عِلْماً يَقِيناً أنك لن تَبْلُغ أملك ولن تَعْدو أجلك وأنك في سَبيل مَن كان قَبْلك فأكْرم نفسَك عن كل دَنِيَّة وإن ساقتك إلى الرغائب فإنك لن تَعتاض بما تَبْذُلُ من نفسك " عوضاً ". وإيّاك أن تُوجِف بك مَطايا للطمع وتقول: متى ما أخِّرت نزعتُ فإنَّ هذا أهْلَك مَن هَلك قَبْلك. وأمسِك عَليك لسانك فإنَ تَلافِيكَ ما فرط من صَمْتك أيْسر عليك من إدراك ما فات من مَنْطقك واحفَظْ ما في الوِعاء بشدّ الوكاء فحُسْن التَّدبير مع الاقتصاد أبْقى لك من الكثير مع الفَساد والحُرْفة مع العِفّة خير من الغِنَى مع الفجور والمَرْء أحفظُ لسِرّه ولربما سَعى فيما يَضرُه. إياك والاتّكالَ على الأماني فإنها بضائع النَّوكي وتًثبط عن الآخرة والأولى. ومن خير حظّ الدنيا القَرين الصالح فقارنْ أهلَ الخَير تَكُن منهم وباين أهلَ الشر تَبِنْ عنهم ولا يَغْلبنَ عليك سوء الظنّ فإنه لن يَدعَ بينك وبين خليل صُلْحاً. أذك قلبك بالأدب كما تذكى النار الحطب واعلم أنّ كُفْر النِّعمة لُؤْم وصُحْبة الأحمق شُؤم ومن الِكَرَم مَنْع الحُرَمٍ ومَن حَلُم ساد ومَن تَفَهّم ازداد. آمْحَض أخاك النصيحةَ حسنةًَ كانت أو قبيحةً. لا تَصرْم أخاك على ارتياب ولا تَقْطعه دون استعتاب وليس جزاء من سرّك أن تَسُوءه. الرزق رِزْقان: رِزْق تَطْلبه ورِزْق يَطلبك فإن لم تأته أتاك. واعلم يا بُني أن مالَك من دُنياك إلا ما أصلحت به من مَثْواك فأنْفق من خَيْرك ولا تَكن خازناً لِغَيرك وإن جَزعْت على ما يُفلت من يديك فاجزع على ما لم يَصِل إليك. ربما أخطأ البصيرُ قَصْدَه وأبصر الأَعمى رُشْدَه ولم يَهْلك أمرؤ اقتصد ولم يَفْتقر من زَهد. مَن ائتمن الزمانَ خانه ومن تَعظّم عليه أهانه. رأسُ الدين اليقين وتمام الإخلاص اجتناب المَعاصي وخيرُ المَقال ما صَدّقَته الفِعَال. سَلْ عن الرَّفيق قبل الطريق وعن الجار قبل الدّار واحمل لِصَديقك عليك واقْبل عًذْر مَن اعتذر إليك وأخر الشرَّ ما استطعت فإنك إذا شِئْت تَعجّلته. لا يكن أخوك على قَطِيعتك أقوَى منك على صِلَته وعلى الإساءة أقوى منك على الإحسان. لا تُمَلّكن المرأة من الأمر ما يًجاوز نفسها فإنَّ المرأة رَيْحانة وليست بِقَهْرمانة فإنَّ ذلك أدومُ لحالها وأرخَى لبالها. واغضُض بصرَها بِستْرك واكفُفْها بحجابك وأكرم الذين بهم تَصُول وإذا تطاولتَ بهم تَطُول. اسأل الله أن يُلْهمك الشكر والرَّشد ويُقَوِّيك على العمل بكل خَيْر ويَصرف عنك كل مَحْذور برحمته والسلامُ عليك ورحمة الله وبركاته.
مقام صالح بن عبد الجليل قام صالح بن عبد الجَليل بين يدي المهديّ فقال له: إنه لما سَهُل علينا ما توعّر على غيرنا منِ الوصول إليك قُمْنا مَقام الأدَاء عنهم وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظْهار ما في أعناقنا من فريضة الأمرِ والنهْي عند انقطاع عُذْر الكِتْمان ولا سيّما حين اتّسمتَ بميسم التَواضع ووعدت الله وحَملة كتابه إيثارَ الحق على ما سواه فَجَمعنا وإياك مشهدٌ من مشاهد التَّمحيص. وقد جاء في الأثر: مَن حَجَب الله عنه العِلْم عَذَبه على الجَهل وأشدُّ منه عذاباً من أقبل إِليه العلمُ فأدبر عنه فاْقبل يا أمير المُؤمنين ما أهْدي إليك من أَلْسنتنا قَبولَ تحقيق وعمل لا قَبول سُمعةٍ ورياء فإنما هو تَنْبيه من غَفْلة وتذْكير من سَهْو وقد وَطَّن الله " عزَ وجلَّ " نَبيّه " عليه السلام " على نُزولها فقال تعالى: " وإمّا يَنْزغَنْك مِن الشَّيطان نزْغ فاْسَتعذ باللّه إنه هو السَّمِيع العَليم ". مقام رجل من العباد عند المنصور بينما المنصورُ في الطَراف بالبَيْت ليلاً إذ سَمِع قائلا يقول اللّهم إني أشكُو إليك ظُهور البغي والفَساد في الأرض وما يحولُ بين الحقّ وأهله من الطّمع. فخرج المنصورُ فَجَلس ناحية من المَسجد وأرسل إلى الرجل يدعوه فصلّى رَكْعتين واستَلم الركن وأَقبل مع الرسول فسلّم عليه بالخلافة فقال المنصورُ: ما الذي سمعتًك تذكُر من ظُهور الفَساد والبغي في الأرض وما الذي يحَول بين الحقّ وأهله من الطّمع فواللِّه لقد حَشَوْتَ مسامعي ما أرْمَضني. فقال: إنْ أمَنتني يا أميرَ المؤمنين أعلمتك بالأمور من أصولها وإلاّ احتجرتُ منك واقتصرتُ على نفسي فلي فيها شاغِل. قال: فأنتَ آمنٌ على نفسك فقُل. فقال: يا أميرَ المؤمنين إنَّ الذي دخله الطمعُ وحال بينه وبين ما ظَهر في الأرض من الفساد والبغي لأنت فقال: فكيف ذلك وَيْحك! يَدْخلُني الطمع والصفراء والبَيضاء في قَبْضتي والحًلْو والحامض عندي قال: وهل دَخل أحدٌ من الطمع ما دَخلك إنَّ الله استرْعاك أمرَ عِباده وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجَمْع أموالهم وجعلتَ بينك وبينهم حجاباً من الجَصّ والآجُرّ وأبواباً من الحديد وحًرّاساً معهم السّلاح ثم سجنتَ نفسك عنهم فيها وبَعثتَ عُمَّالك في جباياتِ الأموال وجَمْعها " وقوّيتهم بالرجال والسلاح والكُراع " وأَمرت أن لا يدخل عليك أحدٌ من الرجال إلا فلانٌ وفلانٌ نفراً سميتهم ولم تَأْمر بإيصال المَظلوم ولا الملْهوف ولا الجائع العارِي " ولا الضَّعيف الفقير " إليك ولا أحدٌ إلا وله في هذا المال حقّ فلما رآك هؤلاء النفرُ الذين استَخْلصتهم لنفسك وآثرتَهم على رعيّتك وأمرِتَ أن لا يُحجبوا دونك تَجْبي الأموالَ وتَجمعها قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه فإئتمروا أنْ لا يصلَ إليك من عِلْم أخبار الناس شْيءٌ إلا ما أرادوا ولا يَخْرُجَ لك عاملٌ " فيُخالفَ أمرهم " إلا خَوّنوه عندك ونفَوْه حتى تسقطَ منزلتُه فلما انتشر ذلك عنك وعَنهم أَعْظَمهم الناسُ وهابوهم وصانَعُوهم فكان أولَ من صانَعهم عُمّالُك بالهدايا والأموال لِيَقْووا بها على ظُلم رعيّتك ثم فعل ذلك ذوو المقْدرة والثروة من رعيّتك لينالوا ظُلْم مَن دونهم فامتلأت بلادُ الله بالطّمع ظُلْماً وبَغْياً وفساداً وصار هؤلاء القومُ شركاءك في سُلْطانك وأنت غافل فإن جاء مُتظلِّم حِيل بينك وبينه. فإنْ أراد رَفْع قِصّته إليك عند ظُهورك وَجدك قد نَهَيْت عن ذلك ووقفت للناس رجلاً يَنْظر في مَظالمهم فإن جاء ذلك المتظلِّم فبَلغ بطانتَك خبرُه سألوِا صاحبَ المظالم أن لا يَرْفع مَظلَمتَه إليك " فإن المتظلَّم منه له بهم حُرْمة فأجابهم خوفاَ منهم " فلا يَزال المظلوِمُ يَختلف إليه ويَلُوذ به ويَشْكو ويَسْتغيث وهو يَدْفعه فإذا أجْهد وأحْرج ثم ظَهرْت صَرخ بين يديك فيُضرب ضرباً مُبرِّحاً يكون نَكالاً لغيره وأنت تَنظر فما تُنْكِر فما بَقاء الإسلام " على هذا " وقد كنتُ يا أمير المؤمنين أًسافر إلى الصِّين فقدِمتها مرَّةً وقد أُصيب ملكُها بسَمْعه فَبكى بًكاءَ شديداً فحّثه جُلساؤه على الصَبر فقال أما إني لستُ أَبكي للبليّة النازٍلة بي ولكني أبْكي لمظلوم يصرُخ بالباب فلا أَسمع صوتَه. ثم قال: أمَا إذ قد ذهب سَمْعي فإنّ بَصري لم يَذْهب نادُوا في النّاس أن لا يَلْبس ثوباً أحمرَ إلا مُتظلِّم. ثم كان يركب الفيلَ طَرَفي النهار وينظُر هل يَرى مظلوماً. فهذا يا أمير المؤمنين مُشرك باللّه بلغتْ رأفته بالمُشركين هذا المبلغ وأنت مُؤمن باللّه من أهل بيت نبيّه لا تَغْلبك رأفتك بالمُسلمين على شُحّ نفسك فإن كنتَ إنما تَجمع المال لولدك فقد أراك الله عِبَراً في الطِّفل يَسقط من بَطن أمه مالَه على الأرض مال وما من مال إلا ودونه يدٌ شَحيحة تَحْويه فما يَزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعْظُم رغبة الناس إليه ولستَ الذي تُعطي بل الله الذي يعطيِ من يشاء ما يشاء فإن قلتَ إنما تَجْمَع المال لتَشُدَّ به السلطان فقد أراك الله عِبراَ في بني أمَيّة ما أغنى عنهم جمعُهم من الذًهب وما أعدُّوا من الرِّجال والسلاح والكُرَاع حين أراد الله بهم ما أراد وإن قلت إنما تجمع المالَ لطلب غايةٍ هي أجسم من الغاية التي أنت فيها فواللّه ما فَوق ما أنت فيه إلا منزلةٌ لا تُدْرك إلا بخلاف ما أنتَ عليه. يا أميرَ المؤمنين هل تُعاقب مَن عَصَاك بأشدّ من القتل فقال المنصور: لا فقال: فكيف تَصنع بالمَلِك الذي خَوَّلك مُلْك الدنيا وهو لا يُعاقب مَن عَصاه بالقتل ولكن بالخُلود في العذاب الأليم قد رأى ما عُقد عليه قلبك وعَملته جوارحك ونَظَر إليه بَصرك واجترَحَتْه يداك ومَشَت إليه رِجْلاك هل يُغْني عنك ما شَحِحْتَ عليه من مُلْك الدُّنيا إذا انتزَعَه من يدك ودعاكَ إلى الحِساب قال: فَبكى المنصورُ ثم قال: ليتَنِي لم أخْلق. ويحك! فكيف أحتال لِنَفْسي فقال: يا أمير المؤمنين إنَّ للناس أعلاماَ يَفْزَعون إليهم في دينهم ويَرْضَوْن بهم في دُنياهم فاجعلهم بِطانَتك يُرْشدوك وشاوِرْهم في أمْرِكَ يُسَدِّدوك قال: قد بعثتُ إليهم فهربوا منِّي قال: خافُوك أن تَحملهم على طريقَتِك ولكن افْتَح بابَكَ وسهِّل حِجَابك وانصُر المظلوم واقمع الظالم وخُذِ الفَيْءَ والصدقات من حِلَها واقسمها بالحقّ والعدْلِ على أهلها وأنا ضامن عنهم أن يأتوك ويساعدوك على صلاح الأمة. وجاءَ المؤذِّنون فسلَّموا عليه فصلّى وعاد إلى مَجْلسه وطُلِب الرجُل فلم يوجد. مقام الأوزاعي بين يدي المنصور قال الأوزاعيّ: دخلتُ عليه فقال لي: ما الذي بَطّأَ بك عني قلتُ: وما تُريد منّي يا أمير المؤمنين قال: الاقتباس منك قلتُ: يا أمير المؤمنين انْظُر ما تقول فإنّ مَكحولا حدَّثَني عن عطيَّة بن بُسْر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ بَلغتْه عن اللّه نصيحةٌ في دِينه فهي رحمةٌ من الله سِيقت إليه فإنِّ قَبِلها من الله بشكرو إلا فهي حُجَّة من الله عليه ليَزداد إثماً ويزدادَ الله عليه غَضباً " وإِن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا وإن سَخِطَ فله السّخْط ومَن كرهه فقد كره الله عزَّ وجلَّ لأنَّ الله هو الحق المبين ". ثم قلتُ: يا أميرَ المُؤْمنين إنك تحمّلت أمانة هذه الأمة وقد عُرضت على السَّمواتِ والأرض فأَبَين أَنْ يَحْمِلْنَها وَأشْفَقْنَ مِنْهَا. وقد جاء عن جدِّكَ عبد الله بن عبّاس في تفسير قول الله عزّ وجلّ: " قال: الصِّغيرة: التبسّم. والكبيرة: الضحك. فما ظنك بالقول والعمل فأًعيذك باللّه يا أَميرَ المُؤْمنين أن تَرى أنّ قَرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تَنْفعك مع المُخالفة لأمره فقد قال للّه: يا صفِيّة عمة محمّد ويا فاطمة بنت محمّد استَوْهِبا أنفسكما من الله فإنّي لا أُغْنِي عنكما من الله شيئاً. وكذلك جدًك العبَّاس سأل إمارةً من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيْ عمّ نفسٌ تُحييها خيرٌ لك من إمارة لا تُحْصِيها. نظراً لعمه وشفقةً عليه من أن يَليَ فيحيد عن سُنّتِه جَنَاح بعوضة فلا يستطيع له نَفْعاً ولا عنه دَفْعاً. وقال صلى الله عليه وسلم: ما منَ راع يَبِيتُ غاشاً لرعيّتِه إلا حَرّمَ الله عليه رائحةَ الجنَّة. وحقِيق على الوالي أن يكونَ لرعيًّته ناظرِاً ولما استطاع من عَوْرَاتِهم ساتراً وبالحق فيهم قائماً فلا يتخوّف مُحْسنهم منه رَهَقاَ ولا مُسِيئهم عًدْوَاناً فقد كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جَريدةٌ يَستاك بها ويَرْدَعُ المنافقين عنه فأتاه جبريلُ فقال: يا محمد ما هذه الجريدة التي معك اتْرُكها لا تَمْلأْ قلوبهم رُعْباً. فما ظنُّك بمن سَفك دِمَاءَهم وقطّع أستارَهم ونهب أموالهمِ يا أمير المؤمنين إن المغفور له ما تقدّمَ من ذنبه وما تأخّر دعا إلى القِصاص من نفْسه بِخَدْش خَدَشه أَعرابيّاً لم يتعمَّده فقال جبريلُ: يا محمد إنّ الله لِم يَبْعثك جبّاراً تَكْسِر قًرون أُمّتك. واعلم يا أمير المؤمنين أن كلَّ ما في يدك لا يعَدِلُ شرْبةً من شَرَاب الجنَّة ولا ثمرَةً من ثِمارها ولو أن ثوباً من ثِياب أهل النار عُلِّق بين السماء والأرض لأهْلك الناسَ رائحتُه فكيف بمن تَقَمّصه! ولو أن ذَنوباً من " صَديد أهل " النار صُبّ على ماء الدُّنيا لأَحَمَّه فكيف بمن تجرّعه! ولو أنَ حَلْقة من سَلاسل جهنَّم وُضعت على جبَل لأذابتْه فكف بمن يُسْلَك فيها وَيُرَدّ فَضْلُها على عاتقه! كلام أبي حازم لسليمان بن عبد الملك حجّ سُليمان بن عبد الملك فلما قَدِمَ المدينةَ للزيارة بَعث إلى أبي حازم الأعرج وعنده ابن شِهاب فلما دخل قال: تكلّم يا أبا حازم. قال: فيم أتكلّم يا أمير المُؤمنين قال: في المَخْرج من هذا الأمر قال: يَسِيرٌ إن أنت فعلتَه قال: وما ذاك قال: لا تأخذ الأشياء إلاّ من حِلِّها ولا تَضَعْها إلا في أهلها قال: ومن يَقوى على ذلك قال: مَن قلَّدَه الله من أَمر الرعيّة ما قلَّدك. قال: عِظْني يا أبا حازم قال: اعلم أنَّ هذا الأمر لم يَصِرْ إليك إلا بمَوْت من كان قَبْلَك وهو خارجٌ من يديك بمثل ما صار إليك. قال: يا أبا حازم أَشِر عليَّ قال: إنما أنت سُوق فما نفق عندك حُمِل إليك من خير أو شرّ فاشتر أيَّهما شِئتَ. قال: مالك لا تأتينا قال: وما أَصنع بإتيانِك يا أمير المؤمنين إنً أَدْنَيْتَني فتنْتَني وإن أقصَيتني أَخْزَيْتني وليس عندك ما أرجوك له ولا عِنْدي ما أَخافُك عليه. قال: فارفع إلينا حاجتَك قال: قد رفعتُها إلى ما مَن هو أقدرُ منك عليها فما أَعطاني منها قَبِلْتُ وما مَنَعَني منها رَضِيتُ. مقام ابن السمَّاك عند الرشيد دَخل عليه فلما وَقف بين يديه قال له: عِظْني يابن السمَّاك وأوجز. قال: كفي بالقُرآن واعظاً يا أميرَ المؤمنين قال الله تعالى: " هذا يا أمير المؤمنين وَعيدٌ لمن طَفّفَ في الكَيْل فما ظَنُّك بمن أخذه كُلّه وقال له مرة: عِظْني وأتي بماء ليشرَبه فقال: يا أَمير المؤمنين لو حُبِسَتْ عنك هذه الشرْبةُ أكنتَ تَفدِيهاَ بمُلْكك قال: نعم قال: فلو حُبِس عنك خُروجُها أكنت تَفديها بمُلْكك قال: نعم " قال ": فما خيرٌ في مُلْك لا يُسَاوي شرْبة ولا بَولَة. قال: يابن السماك ما أَحْسن ما بَلَغنِي عنك! قال: يا أمير المؤمنين إنَ لي عيوباَ لو اطّلع الناسُ منها على عيب واحد ما ثبتتْ لي في قَلب أحد موِدّة وإني لخائفٌ في الكلام الفِتْنة وفي السرّ الغِرّةً وإني لخائفٌ على نَفْسي من قِلّة خوْفي عليها. كلام عمرو بن عبيد عند المنصور دخل عمرو بن عُبيد على المَنصور وعنده ابنه المهديّ فقال له أبو جعفر: هذا ابن أمير المؤمنين ووليُّ عهد المسلمين ورَجائي أن تًدْعو له فقال: يا أمير المؤمنين أراك قد رَضيتَ له أموراً يصير إليها وأنت عنه مَشْغول. فاستَعْبر أبو جعفر وقال له: عِظْني أبا عثمان قال: يا أمير المؤمنين إنَّ الله أعطاك الدّنيا بأسرها فاشتر نفسَك منه بِبعْضها هذا الذي أصبح في يديك لو بقي في يدِ مَن كان قبلك لم يَصِل إليك. قال: أبا عثمان أعِنِّي بأصحابك قال: ارفع عَلَم الحق يَتبْعك أهلُه ثم خرج فأتْبعَه أبو جعفر بصرُّة فلم يَقبلها وجعل يقول: كُلّكم يَمْشي رُوَيد كُلّكم خاتِلُ صَيد غير َعمرو بنِ عُبيد خبر سفيان الثوري مع أبي جعفر لَقي أبو جعفر سُفْيان الثَّوريَّ في الطواف وسُفيان لا يَعْرفه فَضرب بيده على عاتِقه وقال: أتَعْرفني قال: لا ولكنّك قَبضت عليّ قَبْضة جبّار. قال: عِظْني أبا عبد الله قال: وما عملتَ فيما عَلِمتَ فأَعِظَك فيما جَهِلْت قال: فما يَمْنعك أن تَأتَينا قال إنَّ الله نهى عَنْكم فقال تعالى: " فمسح أبو جعفر يدَه به ثم التفت إلى كلام شبيب بن شيبة للمهدي قال العُتْبي: سألتُ بعضَ آل شَبيب بن شَيْبة أتَحْفظون شيئاً من كلامه قالوا: نعم قال للمهديّ: يا أميرَ المؤمنين إنَّ الله إذ قَسَّم الأقسام في الدًنيا جعل لك أسناها وأَعلاها فلا تَرْض لنفسك في الآخرة إلا مثلَ ما رَضي لك به من الدنيا فأًوصيك بتَقْوى اللّه فَعَليكم نَزَلت ومِنكم أخذت وإِليكم تُرَدّ. من كره الموعظة لبعض ما يكون فيها من الغلظ أو الخرق قال رجل للرَّشيد: يا أمير المؤمنين إنّي أريد أن أعِظك بِعظةٍ فيها بعض الغِلْظة فاحتَمِلها قال: كلاّ إنَّ الله أمر مَن هو خيرٌ منك بإلانة القول لمن هو شرٌّ منِي قال لنبيّه موسى " عليه السلام " إذ أرسله إلى فرعون: " دخل أعرابيٌّ على سُليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين إني مُكلِّمك بكلام فاحتَمِلْه إن كرهتَه فإن وراءه ما تُحب إن قبلتَه قال: هات يا أعرابيّ قال: إني سأطلق لساني بما خَرستْ عنه الألْسُن من عِظتك تأديةً لحق الله تعالى وحقِّ إمامتك إنه قد اكتَنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دُنياك بدينهم ورِضاك بسُخْط ربهم خافُوك في الله ولم يَخافوا الله فيك فهم حَرْب للآخرة سِلْمِ للدنيا فلا تَأمنهم علِى ما ائتمنك الله عليه فإنهم لا يألونك خبالاً والأمانة تَضييعاً والأُمةَ عَسْفاَ وخَسْفاً وأنت مَسْؤول عما آجترحوا وليسوا مَسْؤولين عما اجترحتَ فلا تُصْلح دُنياهم بفَساد آخرتك فإنَّ أَخْسَر الناس صَفْقةً يوم القيامة وأَعظمَهم غبْناً مَن باع آخرتَه بدُنيا غيره. قال سليمان: أما أنت يا أَعرابيّ فقد سَلَلْتَ لسانك وهو أحدّ سيفَيْك. قال: أجلْ يا أمير المؤمنين لك لا عليك. ووعظ رجل المأمون فأَصغَى إليه مُنْصَتاً فلما فَرغ قال: قد سمعتُ موعظتك فاسأل الله أن ينفعنا بها وبما عَلِمنا غيرَ أنّا أحوجُ إلى المُعاونة بالفِعال مِنّا إلى المُعاونة بالمَقال فقد كَثُر القائلون وقَلّ الفاعلون. العُتْبِيُّ قال: دَخل رجلٌ من عَبد القَيْس على أبي فَوَعِظه فلما فَرغ قال أبي له: لو اتّعظنا بما عَلِمنا لا نْتَفعْنا بما عَمِلْنا ولكنّا عَلِمنا عِلماَ لزمتنا فيه الحُجَّة وغَفَلنا غَفْلةَ مَن وَجبت عليه النِّقمة فَوُعظنا في أنفسنا بالتَّنقل من حال إلى حال ومن صِغَرِ إلى كِبر ومن صِحَّة إلى سَقم فأبينا إلا المُقام على الغَفْلة وإيثاراً لعاجل لا بقاءَ لأهله وإعراضاً عن آجل إليه المصير. سعد القَصِير قال: دَخل أناسٌ من القُرّاء على عُتْبة بنِ أبي سًفيان فقالوا: إنّك سَلَّطت السيفَ على الحقّ ولم تسلِّط الحقَّ على السَّيف وجئت بها عَشوة خَفِيّة. قال كَذَبْتُم: بل سلّطت الحقّ وبه سُلِّطتَ فاعرفوا الحقَّ تَعْرفوا السيفَ فإنكم الحاملون له حيثُ وَضعه أفضل والواضعون له حيثُ حَمْله أعدل ونحِن في أول زمان لم يأتِ آخرُه وآخرِ دَهْر قد فات أولُه فصار المَعْروف عندكم مُنْكراَ والمُنكر معروفاً وإني أقول لكم مَهْلاً قبلَ أن أقول لنفسي هلا قالوا: فَنَخْرج آمِنين قال: غيرَ راشدين ولا مَهْدِيِّين. حاد قوم سَفْر عن الطريق فَدَفعوا إلى راهب مُنْفرد في صَوْمعته فنادَوْه فأشرف عليهم فسألوه عن الطريق فقال: ها هنا وأومأ بيده إلى السماء فَعلِموا ما أراد فقالوا: إنا سائلوك قال: سَلُوا ولا تُكْثِرُوا فإن النهار لا يرجع والعُمْر لا يعود والطالبَ حثيث قالوا: علام الناسُ يومَ القيامة قال: على نيَّاتهم وأعمالهم قالوا: إلى أين المَوْئل قال: إلى ما قَدَّمتم قالوا: أوصِنا قال: تزَوَّدُوا على قَدْر سَفركم فَخَيْر الزاد ما بَلَّغ المحلّ ثم أرشدهم الجادَّة واْنقمع. وقال بعضهم: أتيت الشامَ فمررتُ بدَيْر حَرْملة فإذا فيه راهبٌ كأنّ عينيه مَزادتان فقلت له: ما يُبْكيك قال: يا مُسلم أبْكي على ما فَرّطت فيه من عُمري وعلى يوم يَمْضي من أجلي لم يَحْسُن فيه عملي. قال: ثم مررتُ بعد ذلك فسألتُ عنه فقيل لي: إنه قد أسلم وغزا الرومَ وَقُتل. قال أبو زَيْد الحيريّ: قلت لثوبانَ الراهب: ما مَعنى لُبْس الرهبان هذا السواد قال: هو أشبهُ بلباس أهل المصائب قلت: وكلَّكم معشرَ الرُّهبان قد أصيب بمُصيبة قال: يَرْحمك اللّه وهل مُصيبة أعظمُ من مَصائب الذنوب على أهلها قال أبو زيد: فما أذكُر قوله إلا أبكاني. حبيبٌ العَدَويّ عن موسى الأسْوَارِيّ قال: قال: لما وقعتْ الفِتْنه أردتُ أن أحْرِزَ ديني فخرجتُ إلى الأهْواز فبلغ آزادمَرْد قُدومي فبعثَ إليّ مَتاعاً فلما أردتُ الانصراف بلغني أنه ثَقِيل فدخلتُ عليه فإذا هو كالخًفاش لم يَبق منه إلا رأسه فقلت: ما حالُك قال: وما حالُ مَنْ يُريد سفراً بعيداً بغير زاد ويَدْخل قبراً موحِشاً بلا مُؤنس وَينْطلق إلى مَلك عَدْل بلا حُجَّة ثم خرجتْ نفسُه. العُتبيُّ قال: مررتُ براهب باكٍ فقلتُ: ما يُبكيك قال: أمْرٌ عَرفتُه وقَصرُت عن طلبه ويومٌ مَضى من عُمري نقص له أجلي ولم يَنْقُص له أملي.
|